فصل: من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يُسبِّحُ لله ما فِي السّماواتِ وما فِي الْأرْضِ لهُ الْمُلْكُ ولهُ الْحمْدُ وهُو على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ (1)}
أخرج ابن حبان في الضعفاء والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود يولد إلا وإنه مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من فاتحة سورة التغابن».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض، فيقول أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق. وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله: {وصوّركم فأحسن صوركم وإليه المصير}».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العبد يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا، والعبد يولد كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا، وإن العبد يعمل برهة من الزمان بالشقاوة، ثم يدركه الموت بما كتب له، فيموت شقيا، وإن العبد يعمل برهة من دهره بالشقاوة ثم يدركه ما كتب له فيموت سعيدا».
{زعم الّذِين كفرُوا أنْ لنْ يُبْعثُوا قُلْ بلى وربِّي لتُبْعثُنّ ثُمّ لتُنبّؤُنّ بِما عمِلْتُمْ وذلِك على الله يسِيرٌ (7)}
أخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قيل له: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في (زعموا) قال: سمعته يقول: «بئس مطية الرجل».
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عبد الله بن مسعود أنه كره: زعموا.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنه كره زعموا لقول الله: {زعم الذين كفروا}.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن هانئ بن عروة أنه قال لابنه: هب لي اثنتين: (زعموا وسوف) لا يكونان في حديثك.
وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال: زعم كنية الكذب.
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن شريح قال: زعم كنية الكذب.
وأخرج ابن أبي شيبة قال: زعموا زاملة الكذب.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {يوم يجمعكم ليوم الجمع} قال: هو يوم القيامة وذلك {يوم التغابن} غبن أهل الجنة أهل النار.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {يوم التغابن} من أسماء يوم القيامة.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {ذلك يوم التغابن} قال: غبن أهل الجنة أهل النار.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد {ذلك يوم التغابن} قال: غابن أهل الجنة أهل النار، والله أعلم.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في شعب الإِيمان عن علقمة في قوله: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه} قال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيسلم الأمر لله ويرضى بذلك.
وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود رضي الله عنه في الآية قال: هي المصيبات تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} يعني يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وأخرج ابن المنذر عن جريج رضي الله عنه في قوله: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} قال: من أصاب من الإِيمان ما يعرف به الله فهو مهتدي القلب.
قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.
أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شعار المؤمنون يوم يبعثون من قبورهم لا إله إلا الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون».
أخرج الفريابي وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوّا لكم فاحذروهم} في قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوّا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}.
وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال: كان الرجل يريد الهجرة فتحبسه امرأته وولده، فيقول: إنا والله لئن جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لأفعلن ولأفعلن، فجمع الله بينهم في دار الهجرة، فأنزل الله: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا}.
وأخرج عبد حميد عن مجاهد رضي الله عنه {إن من أزواجكم وأولادكم عدوّا لكم فاحذروهم} قال: منهم من لا يأمر بطاعة ولا ينهى عن معصية، وكفى بذلك عداوة للمرء أن يكون صاحبه لا يأمر بطاعة، ولا ينهى عن معصية، وكانوا يثبطون عن الجهاد والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{إِنّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ والله عِنْدهُ أجْرٌ عظِيمٌ (15)}
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} قال: بلاء {والله عنده أجر عظيم} قال: الجنة.
وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا يقولن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم إلا وهو مشتمل على فتنة، فإن الله يقول: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاتها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي الضحى قال: قال رجل، وهو عند عمر: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة أو الفتن، فقال عمر: أتحب أن لا يرزقك الله مالا ولا ولدا، أيكم استعاذ من الفتن فليستعذ من مضلاتها.
وأخرج ابن مردويه عن كعب بن عياض رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال».
وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال».
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن أبي أو في رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال».
وأخرج وكيع في الغرر عن محمد بن سيرين رضي الله عنه قال: قال ابن عمر لرجل: إنك تحب الفتنة. قال: أنا؟ قال: نعم فلما رأى ابن عمر ما داخل الرجل من ذاك، قال: تحب المال والولد.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وابن مردويه عن بريدة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما واحدا من ذا الشق، وواحدا من ذا الشق، ثم صعد المنبر فقال: صدق الله، قال: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما» .
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يخطب الناس على المنبر خرج الحسين بن علي رضي الله عنه فوطئ في ثوب كان عليه فسقط، فبكى، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر، فلما رأى الناس أسرعوا إلى الحسين رضي الله عنه يتعاطونه، يعطيه بعضهم بعضا حتى وقع في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قاتل الله الشيطان، إن الولد لفتنة، والذي نفسي بيده ما دريت أني نزلت عن منبري».
وأخرج ابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاء حسن أو حسين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الولد فتنة، لقد قمت إليه وما أعقل» والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}.
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: لما نزلت {اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102] اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل الله تحفيفا على المسلمين {فاتقوا الله ما استطعتم} فنسخت الآية الأولى.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس {فاتقوا الله ما استطعتم} قال: جهدكم.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة {فاتقوا الله ما استطعتم} قال: هي رخصة من الله، كان الله قد أنزل في سورة آل عمران {اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102] وحق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ثم خفف عن عباده، فأنزل الرخصة {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا} قال: السمع والطاعة فيما استطعت يا ابن آدم عليها، بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على السمع والطاعة فيما استطاعوا.
وأخرج ابن سعد وأحمد وأبو داود عن الحكم بن حزن الكلفي قال: وفدنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبثنا أياما شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام متوكئا على قوس، فحمد الله، وأثنى عليه كلمات طيبات خفيفات مباركات، ثم قال: «أيها الناس إنكم لن تطيقوا كل ما أمرتم به فسددوا وابشروا».
وأخرج عبد بن حميد عن عطاء رضي الله عنه {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} قال: في النفقة.
وأخرج عبد بن حميد عن حبيب بن شهاب العنبري أنه سمع أخاه يقول: لقيت ابن عمر يوم عرفة، فأردت أن أقتدي من سيرته، وأسمع من قوله، فسمعته أكثر ما يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشح الفاحش، حتى أفاض، ثم بات بجمع، فسمعته أيضا يقول ذلك، فلما أردت أن أفارقه قلت يا عبد الله: إني أردت أن أقتدي بسيرتك فسمعتك أكثر ما تقول أن تعوذ من الشح الفاحش قال: وما أبغي أفضل من أن أكون من المفلحين؟ قال الله: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
قوله تعالى: {إن تقرضوا الله} الآية.
أخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله استقرضت عبدي فأبى أن يقرضني، وشتمني عبدي، وهو لا يدري، يقول وادهراه وادهراه، وأنا الدهر» ثم تلا أبو هريرة {إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم}.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي حيان عن أبيه عن شيخ لهم أنه كان يقول إذا سمع السائل يقول: من يقرض الله قرضا حسنا، قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هذا القرض الحسن. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة التغابن:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم)
(بسم الله) كلمة عزيزة من ذكرها يحتاج إلى لسان عزيز في الغيبة لا يتبدل، وفي ذكر الأغيار لا يستعمل، ومن عرفها يحتاج إلى قلب عزيز ليس في كل ناحية منه خليط، ولا في كل زاوية زبيط.
قوله جل ذكره: {يُسبِّحُ لله ما في السّماواتِ وما في الأرْضِ لهُ المُلْكُ ولهُ الحمْدُ وهُو على كُلِّ شيء قدِيرُ}.
المخلوقاتُ كلُّها بجملتها لله سبحانه مُسبِّحةٌ.. ولكن لا يسْمعُ تسبيحها منْ به طرشُ النكرة.
ويقال: الذي طرأ صممه فقد يُرْجى زواله بنوعِ معالجة، أمّا منْ يولدُ أصمّ فلا حيلة في تحصيل سماعه. قال تعالى: {فإنك لا تسمع الموتى} [الروم: 52] وقال تعالى: {ولوْ علِم الله فِيهِمْ خيْرا لأسْمعهُمْ} [الأنفال: 23].
قوله جل ذكره {هُو الذي خلقكُمْ فمِنكُمْ كافِرٌ ومِنكُم مُّؤْمِنٌ والله بِما تعْملُون بصِيرٌ}.
منكم كافرٌ في سابق حُكْمِه سمّاه كافرا، وعلِم أنه يكفر وأراد به الكفر.. وكذلك كانوا. ومنكم مؤمنٌ في سابق حُكْمِه سمّاه مؤمنا، وعِلِم في آزاله أنه يُؤمِن وخلقه مؤمنا، وأراده مؤمنا... والله بما تعلمون بصير.
قوله جل ذكره: {خلق السّماواتِ والأرْض بِالْحقِّ وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ وإِليْهِ الْمصِيرُ}.
{خلق السّماواتِ الأرْض بِالْحِقِّ}: أي وهو مُحِقُّ في خلْقِه.
{وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ} لم يقُلْ لشيءٍ من المخلوقات هذا الذي قال لنا، صوّر الظاهر وصوّر الباطن؛ فالظاهر شاهدٌ على كمال قدرته، والباطن شاهدٌ على جلال قربته.
قوله جل ذكره: {يعْلمُ ما في السّماواتِ والأرْضِ ويعْلمُ ما تُّسِرُّون وما تُعْلِنُون والله علِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
قصِّروا حِيلكُم عن مطلوبكم، فهو تتقاصر عنه علومُكم، وأنا أعلمُ ذلك دونكم.. فاطلبوا منِّي، فأنا بذلك أعلم، وعليه أقدر.
ويقال: {ويعْلمُ ما تُسِرُّون}. فاحذورا دقيق الرياء، وخفِيّ ذات الصدور {وما تُعْلِنُون}: فاحذروا ان يخالِف ظاهرُكم باطنكم.
في قوله: {ما تُسِرُّون} أمرٌ بالمراقبة بين العبد وربه.
وفي قوله: {ما تعلنون} أمرٌ بالصدق في المعاملة والمحاسبة مع الخلْق.
قوله جل ذكره: {ألمْ يأْتِكُمْ نبؤُاْ الّذِين كفرُواْ مِن قبْلُ فذاقُواْ وبال أمْرِهِمْ ولهُمْ عذابٌ ألِيمٌ ذلِك بِأنّهُ كانت تأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبيِّناتِ فقالواْ أبشرٌ يهْدُوننا فكفرُواْ وتولّواْ وّاسْتغْنى الله والله غنِىٌّ حمِيدٌ}.
المراد من ذلك هو الاعتبار بِمنْ سلف، ومنْ لم يعتبِرْ عثر في مهْواةٍ من الاملِ، ثم لا ينْتعِشُ إلاّ بعد فواتِ الأمرِ من يده.
{ذلِك بِأنّهُ كانت تأْتِيهِمْ رُسُلُهُم}. شاهدوا الأمر من حيث الخلْقِ فتطوّحوا في متاهاتِ الإشكالِ المختلفةِ الأحوال. ولو نظروا بعين الحقيقة لتخلّصوا من تفرقة الأباطيل، واستراحوا بشهود التقدير من اختلاف الأحوال ذات التغيير.
قوله جل ذكره: {زعم الّذِين كفرُواْ أن لّن يُبْعثُواْ قُلْ بلى وربِّى لتُبعثُنّ ثُمّ لتُنبّؤُنّ بِما عِملِْتُمْ وذلِك على الله يسِيرٌ}.
الموتُ نوعان: موتُ نفْسٍ، وموتُ قلب، ففي القيامة يُبْعثون من موت النّفْس، وأمّا موتُ القلبِ فلا بعْث منه- عند كثيرٍ من مخلصي هذه الطائفة، قال تعالى مُخْبِرا عنهم: {قالواْ ياويْلنا من بعثننا مِن مّرْقدِنا} [يس: 52] فلو عرفوه لما قالوا ذلك؛ فموتُ قلوبِهم مُسرْمدٌ إلى أنْ تصير معارفُهم ضرورية، فهذا الوقتُ وقتُ موتِ قلوبهم.
قوله جل ذكره: {فئامِنُواْ بِالله ورسُولِهِ والنُّورِ الذي أنزلْنا والله بِما تعْملُون خبِيرٌ}.
{النور الذي أنزلنا}: القرآن. ويجوز ان يكون ما أنزل في قلوب اوليائه من السكينة وفنون الألطاف.
قوله جل ذكره: {يوْم يحْمعُكُمْ لِيوْمِ الْجمْعِ ذلِك يوْمُ التّغابُنِ ومن يُؤْمِن بِالله ويعْملْ صالِحا يُكفِرْ عنْهُ سيِّئاتِهِ ويُدْخِلْهُ جنّاتٍ تجْرِى مِن تحْتِها الأنْهارُ خالِدِين فِيهآ أبدا ذلِك الْفوْزُ الْعظِيمُ}.
المطيعُ- يومئذٍِ- في غبن لأنه لم يستكثر من الطاعة، والعاصي في غبن لأنه استكثر من الزلّة.
وليس كلُّ الغبنِ في تفاوت الدرجات قلّة وكثرة، فالغبن في الأحوال أكثر.
قوله جل ذكره: {مآ أصاب مِن مُّصِيبةٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله ومن يُؤْمِن بِالله يهْدِ قلْبهُ والله بِكُلِّ شيء علِيمٌ}.
أيُّ حُصْلةٍ حصلت فمِنْ قِبلِه خلْقا، وبعلمه وإرادته حُكما.
{يهْدِ قلْبهُ} حتى يهتدي إلى الله في السّراء والضّراء- اليوم- وفي الآخرة يهديه إلى الجنة.
ويقال: {يهْدِ قلْبهُ} للأخلاق السنيّة، والتنقِّي من شُحِّ النّفْس.
ويقال: {يهْدِ قلْبهُ} لاتِّباع السُّنّةِ واجتنابِ البِدْعة.
قوله جل ذكره: {وأطِيعُواْ الله وأطِيعُواْ الرّسُول فإِن تولّيْتُمْ فإِنّما على رسُولِنا الْبلاغُ الْمُبِينُ}.
طاعةُ الله واجبة، وطاعةُ الرُّسُل- الذين هم سفراءٌ بينه وبين الخلْقِ- واجبةٌ كذلك. والأنوار التي تظهر عليك وتطالبُ بمقتضياتها كلُّها حقٌّ، ومن الحقِّ.. فتجب طاعتُها أيضا.
قوله جل ذكره: {يا أيُّها الّذِين ءامنُوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ فاحْذرُوهُمْ وإِن تعْفُو وتصْفحُوا وتغْفِرُوا فإِن الله غفُورٌ رّحِيمُ}.
إذا دعوْك لتجمع لهم الدنيا فهم عدوٌّ لك، أمّا إذا أخذتم منها على وجه العفاف فليسوا لكم أعداء.
قوله جل ذكره: {إِنّمآ أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ والله عِندهُ أجْرٌ عظِيمٌ}.
{فِتْنةٌ}: لأنهم يشغلونك عن أداء حقِّ الله؛ فما تبْق عن الله مشغولا بجمعه فهو غيرُ ميمونٍ عليك.
ويقال: إذا جمعتم الدنيا لغير وجْهِه فإنكم تُشغلُون بذلك عن أداءِ حقِّ مولاكم، وتشغلكم أولادُكم، فتبقون بهم عن طاعة الله- وتلك فتنةٌ لكم.. ترومون إصلاحهم. فتفسدون أنتم وهم لا يصْلحون!
قوله جل ذكره: {فاتّقُواْ الله ما اسْتطعْتُمْ واسْمعُواْ وأطِيعُواْ وأنفِقُواْ خيْرا لأنفُسِكُمْ ومن يُوق شُحّ نفْسِهِ فأُوْلئِك هُمُ الْمُفْلِحُون}.
أي ما دمتم في الجملة مستطيعين ويتوجه عليكم التكليف فاتقوا لله. والتقوى عن شهود التقوى بعد إلا يكون تقصيرٌ في التقوى غايةُ التقوى.
{ومن يُوق شُحّ نفْسِهِ} حتى ترتفع الاخطارُ عن قلبه، ويتحرّر من رِقِّ المكونات، {فأُوْلئِك هُمُ الْمُفْلِحُون}
قوله جل ذكره: {إِن تُقْرِضُوا الله قرْضا حسنا يُضاعِفْهُ لكُمْ ويغْفِرْ لكُمْ والله شكُورٌ حلِيمُ}.
يتوجّه بهذا الخطاب إلى الأغنياء بِبذْلِ أموالهم، وللفُقراء في إخلاءِ أيامهم وأوقاتهم من مراداتهم وإيثارِ مرادِ الحقِّ على مرادِ أنفسِهم.
فالغنيُّ يُقال له: آثِرْ حُكْمي على مرادك في مالِك، والفقيرُ يقال له: آثِرْ حُكْمي في نفْسِك وقلبك ووقتك وزمانك.
{عالِمُ الْغيْبِ والشّهادةِ الْعزِيزُ الْحكِيمُ}.
جلّ شأنه. اهـ.

.قال التستري:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ فاحذروهم} [14]
قال: من حملك من أزواجك وأولادك على جمع الدنيا والركون إليها فهو عدو لك، ومن حثك على بذلها وإنفاقها، ودلك على القناعة والتوكل فليس بعدو لك.
وحكي عن الحسن أنه قال: يا ابن آدم، لا يغرنك من حولك من السباع الضارية ابنك وحليلتك وكلالتك وخادمك، أما ابنك فمثل الأسد في الشدة والصولة، ينازعك فيما في يدك؛ وأما حليلتك، فمثل الكلبة في الهرير والبصبصة، تهر أحيانا وتبصبص أحيانا؛ وأما كلالتك، فوالله لدرهم يقع في ميراث أحدهم، أحب إليه من أن لو كنت أعتقت رقبة؛ وأما خادمك، فمثل الثعلب في الحيل والسرقة.
وأقول لك يا ابن آدم، اتق الله، فلا توقر ظهرك بصلاحهم، فإنما لك خطوات إلى منزلك القابل لأربعة أذرع في ذراعين، فإذا وضعوك هناك انصرفوا عنك وصرفوا النيات، وضربوا الدفوف، وضحكوا بالقهقهة، وأنت تحاسب بما في أيديهم. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة التغابن فِيها خمْسُ آياتٍ:
الْآيةُ الْأُولى قوله تعالى: {يوْم يجْمعُكُمْ لِيوْمِ الْجمْعِ ذلِك يوْمُ التّغابُنِ ومِنْ يُؤْمِنْ بِالله ويعْملْ صالِحا يُكفِّرْ عنْهُ سيِّئاتِهِ ويُدْخِلْهُ جنّاتٍ تجْرِي مِنْ تحْتِها الْأنْهارُ خالِدِين فِيها أبدا ذلِك الْفوْزُ الْعظِيمُ} فِيها ثلاثُ مسائِل:
المسألة الْأُولى:
قال عُلماءُ التّفْسِيرِ: إنّ الْمُراد بِهِ غبْنُ أهْلِ الْجنّةِ أهْل النّارِ يوْم الْقِيامةِ.
الْمعْنى أنّ أهْل الْجنّةِ أخذُوا الْجنّة، وأخذ أهْلُ النّارِ النّار على طرِيقِ الْمُبادلةِ، فوقع الْغبْنُ، لِأجْلِ مُبادلتِهِمْ الْخيْر بِالشّرِّ، والْجيِّد بِالرّدِيءِ، والنّعِيم بِالْعذابِ، على منْ أخذ الْأشدّ وحصل على الْأدْنى.
فإِنْ قِيل: فأيُّ مُعاملةٍ وقعتْ بيْنهُما حتّى يقع الْغبْنُ فِيها؟ قُلْنا وهِي:
المسألة الثّانِيةُ:
إنّما هذا مثلٌ؛ لِأنّ الله سبحانه خلق الْخلْق مُنْقسِمِين على داريْنِ: دُنْيا، وآخِرةٍ، وجعل الدُّنْيا دار عملٍ، وجعل الْآخِرة دار جزاءٍ على ذلِك الْعملِ؛ وهِي الدّارُ الْمطْلُوبةُ الّتِي لِأجْلِها خلق الله الْخلْق؛ ولوْلا ذلِك لكان عبثا، وعِنْدهُ وقع الْبيانُ، بِقولهِ سبحانه: {أفحسِبْتُمْ أنّما خلقْناكُمْ عبثا وأنّكُمْ إليْنا لا تُرْجعُون فتعالى الله الْملِكُ الْحقُّ} يعْنِي عنْ ذلِك وعنْ أمْثالِهِ مما هُو مُنزّهٌ عنْهُ، مُقدّسٌ مِنْهُ، وبيّن سبحانه النّجِديْنِ، وخلق للقلْبِ الْمعْرِفة والْحواسّ سُبُلا لها، والْعقْلُ والشّهْوةُ يتنازعانِ للعلائِقِ، والْملكُ يُعضِّدُ الْعقْل، والشّيْطانُ يحْمِلُ الشّهْوة، والتّوْفِيقُ قرِينُ الْملكِ، والْخِذْلانُ قرِينُ الشّيْطانِ، والْقدرُ مِنْ فوْقِ ذلِك يحْمِلُ الْعبْد إلى ما كُتِب لهُ مِنْ ذلِك.
وقدْ فرّق الْخلْق فرِيقيْنِ فِي أصْلِ الْمِقْدارِ وكتبهُمْ بِالْقلمِ الْأوّلِ فِي اللوْحِ الْمحْفُوظِ فرِيقيْنِ: فرِيقٌ للجنّةِ، وفرِيقٌ للنّارِ، ومنازِلُ الْكُلِّ موْضُوعةٌ فِي الْجنّةِ والنّارِ؛ فإِنْ سبق التّوْفِيقُ حصل الْعبْدُ مِنْ أهْلِ الْجنّةِ، وكان فِي الْجنّةِ، وإِنْ سبق الْخِذْلانُ على الْعبْدِ الْآخرِ فيكُونُ مِنْ أهْلِ النّارِ، فيحْصُلُ الْمُوفّقُ على منْزِلِ الْمخْذُولِ، ويحْصُلُ للمخْذُولِ منْزِلُ الْمُوفّقِ فِي النّارِ، فكأنّهُ وقع التّبادُلُ، فحصل التّغابُنُ.
والْأمْثالُ موْضُوعةٌ للبيانِ فِي حُكْمِ القرآن واللغةِ؛ وذلِك كُلُّهُ مجْمُوعٌ مِنْ نشْرِ الْآثارِ.
وقدْ جاءتْ مُتفرِّقة فِي هذا الْكِتابِ وغيْرِهِ.
المسألة الثّالِثةُ:
اسْتدلّ عُلماؤُنا بِقوله تعالى: {ذلِك يوْمُ التّغابُنِ} على أنّهُ لا يجُوزُ الْغبْنُ فِي مُعاملةِ الدُّنْيا؛ لِأنّ الله تعالى خصّص التّغابُن بِيوْمِ الْقِيامةِ، فقال: {ذلِك يوْمُ التّغابُنِ}؛ وهذا الِاخْتِصاصُ يُفِيدُ أنّهُ لا غبْن فِي الدُّنْيا، فكُلُّ منْ اطّلع على غبْنٍ فِي مبِيعٍ فإِنّهُ مرْدُودٌ إذا زاد على الثُّلُثِ، واخْتارهُ الْبغْدادِيُّون، واحْتجُّوا عليْهِ بِوُجُوهٍ؛ مِنْها قولهُ صلى الله عليه وسلم لِحِبّان بْنِ مُنْقِذٍ: «إذا بايعْت فقُلْ لا خِلابة، ولك الْخِيارُ ثلاثا».
وهذا فِيهِ نظرٌ طوِيلٌ بيّنّاهُ فِي مسائِلِ الْخِلافِ.
نُكْتتُهُ أنّ الْغبْن فِي الدُّنْيا ممنوعٌ بِإِجْماعٍ فِي حُكْمِ الدُّنْيا؛ إذْ هُو مِنْ بابِ الْخِداعِ الْمُحرّمِ شرْعا فِي كُلِّ مِلّةٍ، لكِنّ الْيسِير مِنْهُ لا يُمْكِنُ الِاحْتِرازُ مِنْهُ لِأحدٍ فمضى فِي الْبُيُوعِ؛ إذْ لوْ حكمْنا بِردِّهِ ما نفذ بيْعٌ أبدا، لِأنّهُ لا يخْلُو مِنْهُ، حتّى إذا كان كثِيرا أمْكن الِاحْتِرازُ مِنْهُ، فوجب الرّدُّ بِهِ.
والْفرْقُ بيْن الْقلِيلِ والْكثِيرِ أصْلٌ فِي الشّرِيعةِ معْلُومٌ، فقدّر عُلماؤُنا الثُّلُث لِهذا الْحدِّ؛ إذْ رأوْهُ حدّا فِي الْوصِيّةِ وغيْرِها.
ويكُونُ معْنى الْآيةِ على هذا: ذلِك يوْمُ التّغابُنِ الْجائِزُ مُطْلقا مِنْ غيْرِ تفْصِيلٍ، أوْ ذلِك يوْمُ التّغابُنِ الّذِي لا يُسْتدْركُ أبدا؛ لِأنّ تغابُن الدُّنْيا يُسْتدْركُ بِوجْهيْنِ: إمّا بِردٍّ فِي بعْضِ الْأحْوالِ على قول بعْضِ الْعُلماءِ، وإِمّا بِرِبْحٍ فِي بيْعٍ آخر وسِلْعةٍ أُخْرى.
فأمّا منْ خسِر الْجنّة فلا درْك لهُ أبدا.
وقدْ قال بعْضُ عُلماءِ الصُّوفِيّةِ: إنّ الله كتب الْغبْن على الْخلْقِ أجْمعِين، ولا يلْقى أحدٌ ربّهُ إلّا مغْبُونا؛ لِأنّهُ لا يُمْكِنُهُ الِاسْتِيفاءُ للعملِ حتّى يحْصُل لهُ اسْتِيفاءُ الثّوابِ.
وفِي الْأثرِ قال النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا يلْقى الله أحدٌ إلّا نادِما إنْ كان مُسِيئا إذْ لمْ يُحْسِنْ، وإِنْ كان مُحْسِنا إذْ لمْ يزْددْ».
والْقول مُتشعِّبٌ، والْقدْرُ الّذِي يتعلّقُ مِنْهُ بِالْأحْكامِ هذا فاعْلمُوهُ.
الْآيةُ الثّانِيةُ قوله تعالى: {ما أصاب مِنْ مُصِيبةٍ إلّا بِإِذْنِ الله ومنْ يُؤْمِنْ بِالله يهْدِ قلْبهُ والله بِكُلِّ شيْءٍ علِيمٌ}.
قال الْقاضِي: أدْخل عُلماؤُنا هذِهِ الْآية فِي فُنُونِ الْأحْكامِ، وقالوا: إنّ ذلِك الرِّضا بِالْقضاءِ والتّسْلِيم لِما ينْفُذُ مِنْ أمْرِ الله، والْمِقْدارُ الّذِي يتعلّقُ مِنْهُ بِالْأحْكامِ أنّ الصّبْر على الْمصائِبِ لِعِلْمِ الْعبْدِ بِالْمقادِيرِ مِنْ أعْمالِ الْقُلُوبِ؛ وهذا خارِجٌ عنْ سُبُلِ الْأحْكامِ، لكِنْ للجوارِحِ فِي ذلِك أعْمالٌ مِنْ دمْعِ الْعيْنِ، والْقول بِاللسانِ، والْعملِ بِالْجوارِحِ، فإِذا هدأ الْقلْبُ جرى اللسانُ بِالْحقِّ.
وركدتْ الْجوارِحُ عنْ الْخرْقِ، ولوْ اسْترْسل الدّمْعُ لمْ يضُرّ.
قال النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُبيِّنا لِذلِك: «تدْمعُ الْعيْنُ، ويحْزنُ الْقلْبُ، ولا نقول إلّا ما يُرْضِي ربّنا، وإِنّا بِك يا إبْراهِيمُ لمحْزُونُون».
وقدْ بيّنّا حُكْم النِّياحةِ، وما يتعلّقُ بِها مِنْ الْأعْمالِ الْمكْرُوهةِ فِيما تقدّم، فلا وجْه لِإِعادتِها.
الْآيةُ الثّالِثةُ قوله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا إنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لكُمْ فاحْذرُوهُمْ وإِنْ تعْفُوا وتصْفحُوا وتغْفِرُوا فإِنّ الله غفُورٌ رحِيمٌ} الْآيةُ.
فِيها سِتُّ مسائِل:
المسألة الْأُولى:
قدْ بيّنّا الْعداوة ومُقابِلتها الْوِلاية فِي كِتابِ الْأمدِ الْأقْصى وغيْرِهِ وحقّقْنا أنّ الْوِلاية هِي الْقُرْبُ، وأنّ الْعداوة هِي الْبُعْدُ، وأوْضحْنا أنّ الْقُرْب والْبُعْد يكُونانِ حقِيقة بِالْمسافةِ؛ وذلِك مُحالٌ فِي حقِّ الْإِلهِ، ويكُونانِ بِالْمودّةِ والْمنْزِلةِ؛ وذلِك جائِزٌ فِي حقِّ الْإِلهِ، وكِلا الْوجْهيْنِ يجُوزُ على الْخلْقِ.
والْمُرادُ بِالْعداوةِ هاهُنا بُعْدُ الْمودّةِ والْمنْزِلةِ؛ فإِنّ الزّوْجة قرِيبٌ، والْولد قرِيبٌ، بِحُكْمِ الْمُخالطةِ، والصُّحْبةِ، ولكِنّهُما قدْ يقْرُبانِ بِالْأُلْفةِ الْحسنةِ والْعِشْرةِ الْجمِيلةِ، فيكُونانِ ولِيّيْنِ، وقدْ يبْعُدانِ بِالنّفْرةِ والْفِعْلِ الْقبِيحِ، فيكُونانِ عدُوّيْنِ، وعنْ هذا أخْبر الله سبحانه، ومِنْهُ حذّر، وبِهِ أنْذر.
المسألة الثّانِيةُ:
ثبت عنْ ابْنِ عبّاسٍ مِنْ طرِيقِ التِّرْمِذِيِّ وغيْرِهِ أنّهُ سألهُ رجُلٌ عنْ هذِهِ الْآيةِ: {يأيُّها الّذِين آمنُوا إنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لكُمْ فاحْذرُوهُمْ} قال: هؤُلاءِ رِجالٌ أسْلمُوا مِنْ أهْلِ مكّة، وأرادُوا أنْ يأْتُوا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأبى أزْواجُهُمْ وأوْلادُهُمْ أنْ يدْعُوهُمْ أنْ يأْتُوا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم؛ فلمّا أتوْا رسُول الله صلى الله عليه وسلم ورأوْا النّاس فقِهُوا فِي الدِّينِ همُّوا أنْ يُعاقِبُوهُمْ؛ فأنْزل الله عز وجل: {يأيُّها الّذِين آمنُوا إنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لكُمْ فاحْذرُوهُمْ}.
المسألة الثّالِثةُ:
هذا يُبيِّنُ وجْه الْعداوةِ؛ فإِنّ الْعدُوّ لمْ يكُنْ عدُوّا لِذاتِهِ، وإِنّما كان عدُوّا لِفِعْلِهِ، فإِذا فعل الزّوْجُ والْولدُ فِعْل الْعدُوِّ كان عدُوّا، ولا فِعْل أقْبح مِنْ الْحيْلُولةِ بيْن الْعبْدِ وبيْن الطّاعةِ.
وفِي صحِيحِ مُسْلِمٍ عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: «إنّ الشّيْطان قعد لِابْنِ آدم فِي طرِيقِ الْإِيمانِ. فقال لهُ: أتُؤْمِنُ وتذرُ دِينك ودِين آبائِك، فخالفهُ فآمن. ثُمّ قعد لهُ على طرِيقِ الْهِجْرةِ، فقال لهُ: أتُهاجِرُ وتتْرُكُ أهْلك ومالك؛ فخالفهُ فهاجر؛ فقعد لهُ فِي طرِيقِ الْجِهادِ، فقال: أتُجاهِدُ فتقْتُلُ نفْسك وتُنْكحُ نِساؤُك، ويُقْسمُ مالُك، فخالفهُ فجاهد فقُتِل، فحقٌّ على الله أنْ يُدْخِلهُ الْجنّة».
وقُعُودُ الشّيْطانِ يكُونُ بِوجْهيْنِ: أحدُهُما يكُونُ بِالْوسْوسةِ.
والثّانِي: بِأنْ يحْمِل على ما يُرِيدُ مِنْ ذلِك الزّوْج والْولد والصّاحِب.
قال الله سبحانه: {وقيّضْنا لهُمْ قُرناء فزيّنُوا لهُمْ ما بيْن أيْدِيهِمْ وما خلْفهُمْ}.
فِي حِكْمةِ عِيسى عليه السلام: منْ اتّخذ أهْلا ومالا وولدا كان للدُّنْيا عبْدا.
وفِي صحِيحِ الْحديث بيانُ أدْنى مِنْ ذلِك حالُ الْعبْدِ؛ قال النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تعِس عبْدُ الدِّينارِ، تعِس عبْدُ الدِّرْهمِ، تعِس عبْدُ الْخمِيصةِ، تعِس عبْدُ الْقطِيفةِ، تعِس فانْتكس، وإِذا شِيك فلا انْتفش»، ولا دناءة أعْظم مِنْ عِبادةِ الدِّينارِ والدِّرْهمِ، ولا هِمّة أخسّ مِنْ هِمّةٍ ترْتفِعُ بِثوْبٍ جدِيدٍ.
المسألة الرّابِعةُ:
كما أنّ الرّجُل يكُونُ لهُ ولدُهُ وزوْجُهُ عدُوّا كذلِك الْمرْأةُ يكُونُ لها ولدُها وزوْجُها عدُوّا بِهذا الْمعْنى بِعيْنِهِ.
وعُمُومُ قولهِ: {مِنْ أزْواجِكُمْ} يُدْخِلُ فِيهِ الذّكر والْأُنْثى كدُخُولِهِما فِي كُلِّ آيةٍ.
المسألة الْخامِسةُ:
قولهُ: {فاحْذرُوهُمْ}؛ معْناهُ على أنْفُسِكُمْ.
والْحذرُ على النّفْسِ يكُونُ بِوجْهيْنِ: إمّا لِضررٍ فِي الْبدنِ، وإِمّا لِضررٍ فِي الدِّينِ.
وضررُ الْبدنِ يتعلّقُ بِالدُّنْيا، وضررُ الدِّينِ يتعلّقُ بِالْآخِرةِ.
فحذّر الله الْعبْد مِنْ ذلِك وأنْذرهُ بِهِ.
المسألة السّادِسةُ:
قولهُ: {وإِنْ تعْفُوا وتصْفحُوا وتغْفِرُوا فإِنّ الله غفُورٌ رحِيمٌ}: قال عُلماءُ التّفْسِيرِ: الْمُرادُ بِذلِك أنّ قوْما مِنْ أهْلِ مكّة أسْلمُوا ومنعهُمْ أزْواجُهُمْ وأوْلادُهُمْ مِنْ الْهِجْرةِ، فمِنْهُمْ منْ قال: لئِنْ رجعْت لأقْتُلنّهُمْ، ومِنْهُمْ منْ قال: لئِنْ رجعْت لا ينالُون مِنِّي خيْرا أبدا، فأنْزل الله الْآية إلى قولهِ: {وإِنْ تعْفُوا وتصْفحُوا وتغْفِرُوا فإِنّ الله غفُورٌ رحِيمٌ}.
الْآيةُ الرّابِعةُ قوله تعالى: {إنّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ والله عِنْدهُ أجْرٌ عظِيمٌ} فِيها ثلاثُ مسائِل:
المسألة الْأُولى:
روى التِّرْمِذِيُّ وغيْرُهُ واللفْظُ للتِّرْمِذِيِّ قال: كان النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يخْطُبُنا إذْ جاء الْحسنُ والْحُسيْنُ رضِي الله عنْهُما، عليْهِما قمِيصانِ أحْمرانِ يمْشِيانِ ويعْثُرانِ، فنزل رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمِنْبرِ فحملهُما ووضعهُما بيْن يديْهِ، ثُمّ قال: «صدق الله: {إنّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ}، نظرْت إلى هذيْنِ الصّبِيّيْنِ يمْشِيانِ ويعْثُرانِ فلمْ أصْبِرْ حتّى قطعْت حديثي ورفعْتهما».
المسألة الثّانِيةُ:
الْفِتْنةُ ما بيّنّاها فِيما تقدّم، وهِي الِابْتِلاءُ، فالْمعْنى أنّ الله ابْتلى الْعبْد بِالْمالِ والْأهْلِ لِينْظُر أيُطِيعُهُ أمْ يعْصِيهِ، حسْبما ثبت فِي عِلْمِهِ وتقدّم فِي حُكْمِهِ؛ فإِنْ مال الْعبْدُ إليْهِما خسِر، وإِنْ صبر على الْعُزُوفِ عنْهُما، وأناب إلى إيثارِ جانِبِ الطّاعةِ عليْهِما فالله عِنْدهُ أجْرٌ عظِيمٌ، وهِي الْجنّةُ بِعيْنِها الّتِي أخْبر الله بِقولهِ: {أُولئِك الّذِين امْتحن الله قُلُوبهُمْ للتّقْوى لهُمْ مغْفِرةٌ وأجْرٌ عظِيمٌ} وقدْ قال الشّاعِرُ:
وقدْ فُتِن النّاسُ فِي دِينِهِمْ ** وخلّى ابْنُ عفّان شرّا طوِيلا

المسألة الثّالِثةُ:
قولهُ: {والله عِنْدهُ أجْرٌ عظِيمٌ} يعْنِي الْجنّة؛ فهِي الْغايةُ، ولا أجْر أعْظم مِنْها فِي قول الْمُفسِّرِين.
وعِنْدِي ما هُو أعْظمُ مِنْها، وهُو ما ثبت فِي الصّحِيحِ عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال واللفْظُ للبُخارِيِّ عنْ أبِي سعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يقول لِأهْلِ الْجنّةِ: يا أهْل الْجنّةِ، فيقولون: لبّيْك ربّنا وسعْديْك، فيقول: هلْ رضِيتُمْ؟ فيقولون: وما لنا لا نرْضى؟ وقدْ أعْطيْتنا ما لمْ تُعْطِ أحدا مِنْ خلْقِك؟ فيقول: ألا أُعْطِيكُمْ أفْضل مِنْ ذلِك؟ قالوا: يا ربّنا، وأيُّ شيْءٍ أفْضلُ مِنْ ذلِك؟ فيقول: أُحِلُّ عليْكُمْ رِضْوانِي، فلا أسْخطُ عليْكُمْ بعْدهُ أبدا».
ولا شكّ فِي أنّ الرِّضا غايةُ الْآمالِ، وقدْ أنْشد بعْضُ الصُّوفِيّةِ فِي تحْقِيقِ ذلِك:
امْتحن الله بِهِ خلْقهُ ** فالنّارُ والْجنّةُ فِي قبْضتِهِ

فهجْرُهُ أعْظمُ مِنْ نارِهِ ** ووصْلُهُ أطْيبُ مِنْ جنّتِهِ

الْآيةُ الْخامِسةُ قوله تعالى: {فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ واسْمعُوا وأطِيعُوا وأنْفِقُوا خيْرا لِأنْفُسِكُمْ ومنْ يُوق شُحّ نفْسِهِ فأُولئِك هُمْ الْمُفْلِحُون} فِيها ثمانِ مسائِل:
المسألة الْأُولى:
فِي التّقْوى: قدْ بيّنّا حقِيقة التّقْوى فِيما تقدّم، فلا وجْه لِإِعادتِهِ.
المسألة الثّانِيةُ:
روى زيْدُ بْنُ أسْلم عنْ أبِيهِ أنّهُ قال فِي قول الله عز وجل: {يأيُّها الّذِين آمنُوا اتّقُوا الله حقّ تُقاتِهِ ولا تمُوتُنّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُون}: يقول مُطِيعِين قال: فلمْ يدْرِ أحدٌ ما حقُّ تُقاتِهِ مِنْ عِظمِ حقِّهِ تبارك وتعالى.
ولوْ اجْتمع أهْلُ السّمواتِ والْأرْضِ على أنْ يبْلُغُوا حقّ تُقاتِهِ ما بلغُوا.
قال: فأراد الله أنْ يعْلم خلْقُهُ قُدْرتهُ.
ثُمّ نسخها وهوّن على خلْقِهِ بِقولهِ تبارك وتعالى: {فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ}، فلمْ يدعْ لهُمْ مقالا.
فلوْ قُلْت لِرجُلٍ: اتّقِ الله حقّ تُقاتِهِ رأى أنّك كلّفْتهُ شططا مِنْ أمْرِهِ.
فإِذا قُلْت: اتّقِ الله ما اسْتطعْت رأى أنّك لمْ تُكلِّفْهُ شططا، وهِي قولهُ: {وإِنْ تعُدُّوا نِعْمة الله لا تُحْصُوها إنّ الْإِنْسان لظلُومٌ كفّارٌ}.
نسختْها الْآيةُ الّتِي فِي النّحْلِ: {وإِنْ تعُدُّوا نِعْمة الله لا تُحْصُوها إنّ الله لغفُورٌ رحِيمٌ}.
المسألة الثّالِثةُ:
ثبت عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصّحِيحِ أنّهُ قال: «إذا أمرْتُكُمْ بِأمْرٍ فأْتُوا مِنْهُ ما اسْتطعْتُمْ، وإِذا نهيْتُكُمْ عنْ شيْءٍ فاجْتنِبُوهُ».
وقدْ ذكرْناهُ فِي مواضِع، وها هُنا، فِيما تقدّم وبيّنّا حِكْمة ربْطِ الْأمْرِ بِالِاسْتِطاعةِ، وإِطْلاقِ النّهْيِ على الْجملة، وها هُنا قدْ قرن النّهْي بِالِاسْتِطاعةِ أيْضا، فقال: {فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ}.
وعُمُومُ التّقْوى يتعلّقُ بِالْأمْرِ والنّهْيِ، ومِنْ النّهْيِ ما يقِفُ على الِاسْتِطاعةِ، وهُو إذا تعلّق بِأمْرٍ مفْعُولٍ.
وقدْ حقّقْناهُ فِي شرْحِ الْحديث وأُصُولِ الْفِقْهِ.
المسألة الرّابِعةُ:
إنّ جماعة مِنْ الْمُفسِّرِين رووا أنّ هذِهِ الْآية: {اتّقُوا الله حقّ تُقاتِهِ} لمّا نزلتْ قام قوْمٌ حتّى تورّمتْ أقْدامُهُمْ، وتقرّحتْ جِباهُهُمْ، فأنْزل الله تعالى: {فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ} فنُسِخ ذلِك، وقدْ بيّنّاهُ فِيما تقدّم وفِي الْقِسْمِ الثّانِي مِنْ عُلُومِ القرآن، وهُو قِسْمُ النّاسِخِ والْمنْسُوخِ.
المسألة الْخامِسةُ:
قولهُ: {واسْمعُوا وأطِيعُوا}: فِيهِ قولانِ:
أحدُهُما اصْغوْا إلى ما ينْزِلُ عليْكُمْ مِنْ كِتابِ الله، وهُو الْأصْلُ فِي السّماعِ.
الثّانِي أنّ معْناهُ اقْبلُوا ما تسْمعُون، وعبّر عنْهُ بِالسّماعِ؛ لِأنّهُ فائِدتُهُ على أحدِ قِسْميْ الْمجازِ الّذِي بيّنّاهُ فِي غيْرِ موْضِعٍ.
المسألة السّادِسةُ:
قولهُ: {أطِيعُوا} وقدْ تقدّم بيانُ الطّاعةِ، وأنّها الِانْقِيادُ.
المسألة السّابِعةُ:
{وأنْفِقُوا}: قِيل: هُو الزّكاةُ.
وقِيل: هُو النّفقةُ فِي النّفْلِ، وقِيل: نفقةُ الرّجُلِ على نفْسِهِ.
وإِنّما أوْقع قائِلُ ذلِك فِيهِ قولهُ: {لِأنْفُسِكُمْ} وخفِي عليْهِ أنّ نفقة الْفرْضِ والنّفلِ على الصّدقةِ هِي نفقةُ الرّجُلِ على نفْسِهِ قال الله تعالى: {إنْ أحْسنْتُمْ أحْسنْتُمْ لِأنْفُسِكُمْ وإِنْ أسأْتُمْ فلها}؛ وكُلُّ ما يفْعلُهُ الرّجُلُ مِنْ خيْرٍ فلِنفْسِهِ.
والصّحِيحُ أنّها عامّةٌ؛ رُوِي عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أنّهُ قال لهُ رجُلٌ: عِنْدِي دِينارٌ.
قال: أنْفِقْهُ على نفْسِك.
قال: عِنْدِي آخرُ.
قال: أنْفِقْهُ على عِيالِك.
قال: عِنْدِي آخرُ.
قال: أنْفِقْهُ على ولدِك.
قال: عِنْدِي آخرُ.
قال: تصدّقْ بِهِ»
.
فبدأ بِالنّفْسِ والْأهْلِ والْولدِ، وجعل الصّدقة بعْد ذلِك؛ وهُو الْأصْلُ فِي الشّرْعِ.
المسألة الثّامِنةُ:
قوله تعالى: {ومنْ يُوق شُحّ نفْسِهِ فأُولئِك هُمْ الْمُفْلِحُون}: تقدّم بيانُهُ فِي سُورةِ الْحشْرِ. اهـ.